قصة قصيرة لأفراح الرشيدي : امرأة عظيمة

امرأة عظيمة

قطرات العرق التي كانت تنساب على جبيني و تبلل جسدي كأني واقفة تحت المطر و التعب الذي أشعر به لم يحرك شيء بداخلي من محبة بناتي و أبنائي و زوجي العزيز الذي لا أعلم أين هو الآن إن كان حيا أو ميتا فمنذ أن ذهب في عام 1960 إلى البحرين لم أعد أسمع أخباره رغم أنه يرسل لنا بعض النقود بين الفينة  و الأخرى و التي لا تكفي لسد جوع أطفالي ولكني لا أستطيع طلب لمزيد لأني لا أعلم حالة هناك و ما يواجه من مصاعب في سبيل جمع المال و لكني لن أقف مكتوفة الأيدي فلن أقف موقف المتفرجة و أنا أرى أطفالي  يصيحون من الجوع فبينما أربي ثلاثة أولاد و بنتين و كلهم صغار و يحتاجون للعناية طوال الوقت كنت أعيش في منزل من سعف النخيل (الدعن) لم يكن يقينا برد الشتاء و لا بلل المطر و لا حر أشعة الشمس صيفا فلم يكن أمامي سوى الصبر فأنا كالقبطان الذي يقود سفينة قدر لها الغرق و لكني لن أسمح لها بالغرق فلا يمكنني ترك أطفالي يموتون من البرد والجوع اضطررت لأعمل كبائعة متجولة في و انحناءة ظهري التي لو حني هكذا خشب الساج لكسر هكذا أمضيت أيامي و أنا كأب و أم لأطفالي و في صيف 1965 بدأ المنزل بالتآكل شيئا فشيئا فكنا بحاجة لمنزل جديد فشددت العزم للذهاب للسيد شاه بندر التجار خليفة الذي كان يملك العديد من الأراضي و قد كان يبيعها للناس بأسعار عالية فذهبت إليه رغم أني أعلم بأني لن أخرج من هذا كله بأرض أكبر من قن الدجاج و لكن خرجت بأكثر من ما  هو متوقع لقد اشتريت أرضا متوسطة و موقعها جيد و بسعر بخس لا أعلم لربما أشفق على حالي و أعطانيها بهذا السعر و لكن هذا لا يهم ما دمت أستطيع توفير المسكن لأطفالي كم كانت تلك الأعباء ثقيلة بين إطعام أطفالي و بين تمهيد الأرض التي كانت تحتاج لإحضار الجرار لتمهيدها و قد كان يأخذ أجره باليومية ما كان لي مصدر للمال غير الملابس التي أخيطها و أبيعها رغم صبري و كفاحي كن نساء المجتمع ينظرن إلي نظرة استحقار و كأنني ذلك المخلوق الخارق  الذي لا يتعب و كيف استطعت معارضة والدي و اللذين طلبا مني أن أتطلق و أعود للمنزل بحكم أن زوجي غاب لمدة طويلة فيمكنني أن أتطلق منه و لكني رفضت نعم و كيف لا أرفض فكيف يمكنني خيانة الشخص الذي يعمل بعيدا عن وطنه ليطعم أطفاله تجاهلت كلام الناس و استمررت في بناء منزل أحلامي البسيط الذي أتمنى أن أنام فيه أنا و أطفالي و أنا مرتاحة البال و بعد سنتين من بدأ بناء المنزل أنتهى و قد رأيت السعادة فيه و بعد أسبوع و صل مكتوب من البحرين كتب فيه بأن زوجي توفي في البحر أثناء رحلة الغوص أول سؤال تبادر لذهني هل هذا حقيقة ؟ ماذا سأفعل بأطفالي الخمسة ؟ أحسست بأن الدنيا تدور و لم أستطع التوازن سقطت أرضا و لكن في الحقيقة قبل سقوطي أحسست بأن جبل أنهار بداخلي نتيجة ذلك الخبر و لكن لم أستطع التوقف لا مجال لذلك فالحياة يجب أن تستمر لم أفكر بنظرة المجتمع حينها و رفضت أن أصبح أرملة و أنا لم أرى جثة زوجي بعد استمررت بالعمل رغم أن بعض النساء رفضن أن يشترين مني تجنبن لفضيحة التعامل مع واحدة مثلي رفضت قيود العادات المتحجرة و المجتمع المتخلف و لكن البعض كان يشتري مني إشفاقا على حالي و في يوم من الأيام بينما كنت أعد الفطور صباحا رأيت من بعيد شبح شخص أو شخص شبح و ما زال ذلك الطيف يقترب مني شيئا فشيئا إلى أن أقترب لدرجة أستطيع بها أن أتبين ملامحه لم أصدق في البداية و لكن نعم أنه سعيد زوجي العزيز لقد عاد من البحرين و كذب تلك الشائعات المنتشرة ربما لو كنت بالون في تلك اللحظة لطرت من الفرح تبادر لذهني أنه انتهت معاناتي أخيرا و يمكنني الراحة أو هذا ما ظننته و لكن الحزن الذي فطر قلبي على وفاة ابني الصغير بالمرض الذي لم أستطع إيقافه من سرقة طفلي البريء الذي كان عمادي الذي أستند عليه ثم وكلت أمري لله وأكملت حياتي و قد كان زوجي يعمل في صيد السمك و بينما هو عائد من رحلة الصيد متجها للمنزل على حماره إذا به يسقط من على ظهر الحمار مما أدى إلى كسر ظهره هو الآخر و قد رجع به إلى المنزل و هو محمول على الأيدي و لا يستطيع الحراك شبرا واحدا من على السرير و ظل على هذا الحال أشهرا و أنا أسهر الليل في معالجته و العناية به و في الصباح أعاود العمل لكسب العيش و العناية بأطفالي الأربعة و بينما كان طفلي محمد نائما ذو الثلاثة أشهر تركته مع أخته الكبرى  آمنه ذات السبع سنوات لممارسة أعمال المنزل المعتادة بعد ذلك بفترة أسمع آمنه قادمة نحوي وهي تبكي وفي يديها أخيها فسألتها ما بكي تبكين ؟ فردت علي بأن رجلا كبير بالسن دخل عليها و سألها عني و أقترب من أخيها و قبله ثم غادر بعد أن أخبرته بأني مشغولة فقلت لها و أين المشكلة ؟ فقالت بأن أخيها كان مستيقظا حينما دخل الرجل و أنه كان يبكي و بعدها أنقطع بكاءه و لم يعد يتحرك أو بالأحرى يتنفس و عندما لمست طفلي و جدته باردا كالثلج و لا يتنفس فعلمت أنه توفي يبدو بأن الرجل كان مشعوذا و قد خطف طفلي معه و بالطبع لن يعود كما حدث لعديد من أطفال القرية و هكذا فقدت طفلي الثاني و بعده الثالث بسبب المرض و طفلتي ايضا بسبب المرض بعد أخوتها بسنتين و لم تبقى لي سوى آمنه و قد أصبحت بنت تسع سنوات و لكن الله عوضني بأن رزقني بطفلتين كالقمر و هكذا استمرت حياتي لليوم .

هذه القصة التي كانت جدتي تحكيها لنا وعيناها تدمعان قصة حياتها و تضحيتها و كفاحها من أجل أبناءها قصة كتبت بعرق جبينها و دماء شرايينها نعم إنها قصة امرأة  عظيمة .